ذاكرة الموت المصرية: أجساد لحياة ثانية.. وضفائر النساء قرابين - - شبكة اخباري الاخبارية

ذاكرة الموت المصرية: أجساد لحياة ثانية.. وضفائر النساء قرابين -







"في اليوم التالي لم يمت أحد"، انقطع الموت في دولة صغيرة -لا اسم لها- وأصبح سكانها لا يموتون ويبقى مريضهم على حاله. بدا الأمر رائعا في البداية لمن يتوقون إلى الخلود، لكن ساراماغو سرعان ما يوضح في روايته "انقطاعات الموت" أنها كارثة تهدد البشرية. فالحكومة لا تستطيع التعامل مع هذا الموقف غير المألوف، تعثّر النظام كله، وفشل الناس في استيعاب المسألة، وارتبكت الحياة بشكل عام. أثار غياب الموت، فوضى ليس لها مثيل، ولم تعرفها المجتمعات من قبل، وما استقبل في بداية الأمر بفرح وابتهاج، أصبح بمرور الوقت أمراً لا يطاق.

وفي حكاياته الهائمة، يحكي جمال الغيطاني عن ملاك الموت الذي ملّ عمله، وتوقف عن قبض الأرواح، أدركه الأمر فجأة وعجز عن تفسيره، هو الذي لطالما لبى النداء وظهر إذا أتت المشيئة، والأمر نفسه تكرر؛ حل الجزع عند سائر الموجودات، وتكاثر الوافدون لكف الرحيل. عمت الفوضى، حتى ظهور ملك جديد لا يعرف إلا الامتثال، فعادت الحياة لانضباطها القديم.

ظهر الموت كموضوع للكتابة ربما منذ أن عرف الإنسان التدوين، وظهر في سرديات المصريين منذ عهد الفراعنة الذين رفضوا العدم، واعتبروا الإنسان في رحلة، تبدأ بالولادة ولا تنتهي أبداً بالموت، إنما هو انتقال إلى حياة أخرى ممتدة وباقية. السردية الأشهر هي "متون الأهرام"، وفي مجملها تصور فلسفي متقن من المصري القديم للرحلة الآخروية، من البداية وحتى المثول أمام المحكمة الأوزيرية. تراتيل ومناجاة في أثر أخرى، حتى الموقف الأكبر عندما يمثل "المبرأ"، وهو لفظ قريب من "المرحوم"، أمام المحكمة الأوزيرية حيث يوزن القلب –مصدر الأفعال ومحل النيات- في كفة، أمام ريشة "ماعت" - رمز العدل والتوازن في الوجود، فإذا ثقلت موازينه يكون مذنباً، ويلقى القلب إلى حيوان أسطوري نصفه العلوي تمساح والسفلي أسد، عندئذ يصير المبرأ إلى الجحيم، أما إذا خفت موازينه فيصير إلى حقول "يارو" حيث أرض ليس فيها أعداء، سلام دائم ونعيم مقيم.

من هذا المفهوم العميق للموت في حياة المصريين، طرحت مجلة "ذاكرة مصر" عددها الجديد الذي خصصته بالكامل لمناقشة الفكرة في المعتقد المصري، تقلب الأمر على وجوهه كافه وتستعرض تعامل المصريين مع الموت منذ عصور الفراعنة وحتى الآن. ويتضح من العدد أن معتقدات المصريين حول الموت تدور في فلك واحد تقريباً رغم اختلاف العصور وتبدل الأزمنة. خالد عزب، رئيس التحرير، اعتبر أن صدور عدد كامل بهذا الشكل وعن هذا الموضوع بالتحديد ربما يعتبر "صادماً"، لكن المتابع للحياة في مصر في السنوات الأخيرة يعرف تماماً أن الموت لم يعد أبداً موضوعاً صادماً، ولا يحتاج سبباً أو مبرراً للحديث عنه.

يبدأ العدد مع المصري القديم. فبحسب دراسة فايزة هيكل، أطلق المصري القديم على حالة انفصال الروح عن الجسد، صفات عديدة تتشابه في أغلبها مع الأسماء المعاصرة، منها "هلك، وانتقل، ورقد، ورسا" التي تشير إلى رسو المركب الذي يحمل جثمان المتوفى إلى الشاطئ الغربي من نهر النيل، حيث "دار الحق" وبوابة المرور إلى العالم الآخر. كما وردت في كتابات المصري القديم، كلمة "موت" بالمعنى نفسه الذي تحمله الكلمة في اللغة العربية الآن. والموت، كما تقول الدراسة، كان الوسيلة الوحيدة للانتقال من عالم الفناء إلى عالم الخلود، وربط المصري في مخيلته بين هذه الفكرة وبعض الظواهر الطبيعية التي تحدث في عالمه الدنيوي بلا توقف، مثل دورة الشمس التي تغيب كل مساء في الأفق الغربي من السماء، لتولد من جديد عفية في الأفق الشرقي مع كل صباح، وكذلك ظاهرة فيضان النيل الذي كان يأتي كل عام قوياً بعد أن تجف مياهه فيحيي الأرض الجرداء التي تشققت من العطش.

بشكل عام، كان الموت للمصري القديم، حقاً، لكنه لم يكن النهاية، بل بداية أخرى للرحلة. لذلك، حتى يجهز المتوفى لرحلته الأبدية، لا بد أولاً من تحنيط جثته حتى يحتفظ بشكله الآدمي، بل وضع مع المومياء كل ما تحتاجه من طعام وشراب وملبس وزينة ومفروشات لاستخدامها في العالم الآخر، بالإضافة إلى التمائم والأحجبة والأسحار التي تحمي الميت وتمكنه من التغلب على أعدائه في عالم محفوف بالمخاطر، فضلاً عن النصوص التي كُتبت على جدران الأهرامات والمعابد لمساعدة الروح الملكية على الصعود إلى السماء، واللفائف التي كانت توضع في المقابر، والتي عرفت بـ"متون الأهرام" وظهرت للمرة الأولى في عصر الأسرة الخامسة، في هرم الملك أوناس-آخر ملوك الأسرة، وكشف عنها ماسبيرو-أحد أشهر علماء المصريات العام 1880. ثم ظهرت في ثمانية أهرامات أخرى، منها خمسة أهرامات لملوك، وثلاثة لملكات، وجميعها في جبانة سقارة. ويصل عدد التعاويذ في هذه المتون إلى 759 تعويذة، ولم تظهر كاملة في هرم واحد. وأقصى عدد عُثر عليه داخل هرم واحد هو 675 تعويذة، في هرم الملك بيبي الثاني.

تتضمن هذه النصوص تعاويذ شتى تساعد الروح على الصعود إلى السماء والانضمام إلى النجوم الخالدة في معية إله الشمس "رع"، خالق الكون، بل للاندماج معه، والتوحد به: "ياونيس الملك، إنك لم ترحل قط ميتاً، لقد ارتحلت حيا! لأنك تجلس على عرش أوزير مع صولجانك في يدك، حتى تستطيع إعطاء الأوامر إلى الأحياء".

وقبل الدفن مباشرة، يقرأ الكاهن على المتوفي تعويذة تعرف باسم "فتح الفم" لاسترجاع الوظائف الحيوية للمومياء؛ حيث تمكنها من الرؤية والكلام والحركة ليعود صاحبها من جديد إنساناً حياً في العالم الآخر: "إنهض انك لست بميت".

ويتتبع العدد تطور الفكر أو المعتقد المصري بخصوص الموت في عصور أخرى، من خلال أشهر "جبانات" القاهرة والإسكندرية، وأشهر الحوادث التي أودت بحياة المصريين على مرّ العصور. كما يقدم وصفاً تفصيلياً لطقوس الوفاة والجنازة، كما وصفها إدوارد لين بول، المستشرق وعالم الآثار البريطاني الشهير، إذ يقول إنه عندما كان يموت أحد أفاضل العلماء في القاهرة، كانت تعلن وفاته عبر مآذن الأزهر، والكثير من المساجد الأخرى. وتكاد الطقوس الخاصة بالوفاة والدفن تكون واحدة للرجال والنساء، وعندما تظهر العلامات يدير أحد الحاضرين وجه المتوفى بحيث يكون وجهته إلى مكة ويغلق عينيه، ويصيح الرجال لا حول ولا قوة إلا بالله "وفي الوقت نفسه ترفع نساء العائلة أصوات الندب المسماة "ولولة" إلى أقصى حد، وينادين باسم الميت، وأكثر النداءات شيوعاً عند وفاة رب العائلة، ما تقوله زوجته وأولاده : "يا سيدي، يا جملي، يا سبعي، يا جمل البيت، يا عزي، يا حيلتي، يادهوتي.. وتحضر نساء الجيران عند سماع الصراخ، للمشاركة في هذا الواجب الحزين".
وفى حالة كبار العلماء، يقول إن النعش لم يكن يغطى، وتتبع النساء النعش، لكنهن لا يولولن كما يفعلن في جنازة المتوفى العادي، وإنما يزغردن بلا توقف لتكريمه، "ويقال إن الولي كثيراً ما يدفع حاملي جثته إلى مكان خاص!".

وتسمى الليلة الأولى بعد الوفاة، ليلة الوحشة؛ إذ إن الميت ترك مكانه مقفراً، وفي هذه الليلة عند الغروب، يحضر فقيهان أو ثلاثة إلى المنزل، ويتناولون خبزاً ولبناً، حيث مات الفقيد، ثم يقرأون سورة الملك، "ولما كان الاعتقاد أن الروح تلازم الجسد في الليلة الأولى، ثم تغادره إلى المكان المحدد لبقاء الأرواح الطيبة إلى يوم الحساب أو إلى السجن المحتوم، حيث تنتظر الأرواح الشريرة القضاء الأخير، فإن تلك الليلة تسمى ليلة الوحدة".

ويقول إدوارد لين بول إن العادة جرت في الصعيد، أن تجتمع قريبات المتوفى والصديقات معاً بالقرب من منزله، لمدة ثلاثة أيام بعد الجنازة، ويقمن هناك مناحة، ونوعاً غريباً من الرقص، فيلطخن وجوههن وصدورهن وبعض ملابسهن بالطين، "ويتحزمن بحبل من الحلفا وتهز كل منهن في يدها جريدة أو نبوتاً أو حربة أو سيفاً مسلولاً، ويرقصن ببطء وبطريقة غير منظمة ويظل هذا الرقص ساعة أو أكثر".

الظاهرة يفسرها فارس خضر لكن في زمان ومكان مختلفين، في دراسته حول تحليل طقوس الرقصات والأشعار الجنائزية في "واحة الداخلة"، حيث يقول إن هذه الرقصات ربما تكون محاولة لدمج روح الميت في حياته الأخرى، وقد أريد بها أن تطرد الأرواح الشريرة، إذ تبدو كرواسب من عبادة قديمة سبقتها إلى الظهور، هدفها أن تمنع الموتى من النيل من الأحياء بانتقامهم، وإلى جانب هذا التفسير يطرح فارس تفسيراً آخر، إذ يرجح أن تكون هذه الرقصات محاولة لإثارة الإحساس بالشفقة والخوف في نفوس المشاهدين وأن من شأنها أن تطهر نفوسهم.

تتبع الدراسة التفاصيل الكاملة لرحلة الميت والعادات المرتبطة بالموت في "واحة الداخلة"، وهى ربما لا تختلف كثيراً عن الطقوس المتبعة في الكثير من قرى مصر، خصوصاً تحليل أداء "الندّابات" وما يرد على ألسنتهن: "قالت يا صبايا أبويا مات/ طلعت حالّه الضفاير/ ع القوم تجرى بهمات/ والندب بالطار داير"، ويرى خضر أن عادة "حلّ الضفائر" حزناً على الميت من البقايا الرمزية لعادة قديمة هي قص الشعر وتقديمه كقربان للميت.

ويعد حلّ المرأة لضفائرها، وكذا شق صدر جلبابها، من أقصى الممارسات الاحتجاجية التي يمكن أن تقوم بها المرأة إزاء حادثة الموت، كما ترصد الدراسة، "وربما كانت تلك العادة التي تكسر تابوهات الجماعة وأعرافها والتي تحظر أن تظهر خصلات شعر المرأة أو أن يبان جزء من جسدها أمام عيون الغرباء، وذلك كدلالة رمزية على ما يُتوقع حدوثه من تفكك أواصر الأسرة الواحدة المترابطة بعد موت أحد أفرادها".

وحتى عملية الندب لها طقوسها ونظامها الخاص، إذ لا يقتصر دور "الريسة" التي تقود الندابات، على ضبط الإيقاع الحركي، بل تقوم أيضاً، وبحكم حفظها لنصوص الندب، بإطلاق البيت الشعري "اللازمة" الذي تردده النساء، وهنّ لا يغيّرنه إلا إذا انتقلت هي إلى نص آخر بلازمة جديدة، في حين تقوم "الريسة" بالتنويع في الأبيات بحسب ما تسعفها الذاكرة المكتنزة بالنصوص، والنادبات يكررن الأبيات وراءها.